فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَالسماء ذَاتِ البروج (1)}
البروج: جمع برج، واختلف في المعنى المراد به هنا هل هي المنازل أو الكواكب أو قصور في السماء عليها حراسها؟
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك في سورة الحجر، عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} [الحجر: 16]، وفي سورة الفرقان عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61].
وقيل: إن اصل هذه المادة من الظهور، ومنه تبرج المرأة، وساق بيان المعنى المقصود من بروج السماء وعدد المنازل المذكورة.
وبمناسبة ارتباط السور بعضها ببعض، فإن بعض المفسرين يقول: لما ذكر مآل الفريقين وتطاير الصحف في السورة الأولى، ذكر هنا عملا من أشد أعمال الكفار مع المؤمنين في قصة الأخدود.
والذي يظهر أقوى من هذا، هو والله تعالى أعلم: أنه لما ذكر سابقاً انفطار السماء وتناثر النجوم وانشقاق السماء، وإذنها لربها حق لها ذلك، جاء هنا بيان كنه هذه السماء أنها عظيمة البنية بأبراجها الضخمة أو بروجها الكبيرة، فهي مع ذلك تأذن لربها وتطيع وتنشق لهول ذلك اليوم وتنفطر، فأولى بك أيها الإنسان، والله تعالى أعلم.
{وَالْيوم الموعود (2)}
هو يوم القيامة بإجماع المفسرين، وقد كانوا يوعدون به في الدنيا فهو اليوم الموعود به كل من الفريقين، كما قال تعالى في حق المؤمنين {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يومكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الانبياء: 103]، وفى حق الكفار {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يُلاَقُواْ يومهُمُ الذي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83] وسيعترفون بذلك عند البعث حينما يقولون: {قالواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} [يس: 52].
فاليوم الموعود هو يوم القيامة الموعود به لمجازات كلا الفريقين على عملهم.
{وَشَاهِدٍ ومشهود (3)}
لم يصرح هنا من الشاهد وما المشهود، وقد ذكر الشاهد في القرآن بمعنى الحاضر، كقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} [الأنعام: 73].
وذكر المشهود بمعنى الشاهد باسم المفعول، كقوله تعالى: {ذلك يوم مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يوم مَّشهود} [هود: 103].
فالشاهد والمشهود قد يكونان من المشاهدة، وذكر الشاهد من الشهادة، والمشهود من المشهود ه أو عليه، كما في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشهيد وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].
فشهيد الأولى: أي شهيد على الامة التي بعثت فيها، وشهيد الثانية: أي شاهد على الرسل في أممهم.
ومن هنا اختلفت أقوال المفسرين إلى ما يقرب من عشرين قولاً.
قال ابن جرير: ما ملخصه: يوم الجمعة، والمشهود يوم عرف أو النحر، وعزاه لعلي وأبي هريرة، والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم.، والمشهود يوم القيامة. وعزاه لابن عباس والحسن بن علي هو يوم القيامة، وعزاه لابن عباس. ثم قال: والصواب عندي أنه صالح لكل ما يقال له مشاهد، ويقال له مشهود فلم يفصل ما إذا كان بمعنى الحضور، أو الشهادة، ومثله القرطبي وابن كثير.
وقد فصل أبو حيان على ما قدمنا، فقال: إن كان بمعنى الحضور، فالشاهد الإنسان والمشهود يوم القيامة، ولما ذكر اليوم الموعود ناسب ان يذكر كل من يشهد في ذلك اليوم، ومن يشهد عليه، وذكرنا نحواً من عشرين قولا. وقال: كل له متمسك، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه من باب الشهادة لأن ذكر اليوم الموعود وهو يكفي عن اليوم المشهود، بل إنه يحتاج إلى من يشهد فيه وتقام الشهادة على ما سيعرض فيه لإقامة الحجة على الخلق لا لإثبات الحق.
وقد جاء في القرآن تعداد الشهود في ذلك اليوم، مما يتناسب مع العرض والحساب.
ومجمل ذلك أنها تكون خاصة وعامة وأعم من العامة، فمن الخاصة شهادة الجوارح على الإنسان كما في قوله تعالى: {حتى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20] وقوله: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وهذه شهادة فعل ومقال لا شهادة حال، كما بينها قوله تعالى عنهم: {وَقالواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 21-22]، ورد الله زعمهم ذلك بقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} [فصلت: 23].
وتقدم للشيخ بيان شهادة الأعضاء في سورة يس وفي سورة النساء عند قوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً} [النساء: 42]، وشهادة الملائكة وهم الحفظة كما في قوله تعالى: {وَقال قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23]، وقوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشهيد} [ق: 21]، ثم شهادة الرسل كل رسول على امته، كما في قوله عن عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شهيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117]، فهذا وإن كان في الحياة فسيؤديها يوم القيامة.
وكقوله في عموم الأمم {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشهيد وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].
ومنها: شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على جميع الرسل كما في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشهيد وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].
ومنها: شهادة هذه الأمة على سائر الأمم، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ على الناس} [البقرة: 143].
ومنها: شهادة الله تعالى على الجميع.
وهذا ما يتناسب مع ذكر اليوم الموعود وما يكون فيه من الجزاء والحساب على الأعمال ومجازاة الخلائق عليها: وسيأتي في نفس السياق قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ شهيد} [البروج: 9]، وهو كما ترى لا يتقيد يشاهد وأحد، وأيضًا لا يعارض بعضها بعضا.
فاختلاف الشهود وتعددهم باختلاف المشهود عليه، وتعدده من فرد إلى أمة إلى رسل، إلى غير ذلك. وكلها داخلة في المعنى وواقعة بالفعل.
وقد ذكرت أقوال أخرى، ولكن لا تختص بوم القيامة.
ومنها: أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم، والمشهود به وحدانية الله تعالى.
ومنها: الشاهد المخلوقات، والمشهود به قدرة الله تعالى، فتكون الشهادة بمعنى العلامة.
وأكثر المفسرين إيراداً في ذلك الفخر الرازي حيث ساقها كلها بادلتها إلا ما ذكرناه من السنة فلم يورده.
وقد جاء في السنة تعيين الشهادات لغير ما ذكر.
منها الشهادة للمؤذن: ما يسمع صوته شجر ولا حجر ولا مدر، إلا شهد له يوم القيامة.
ومنها: شهادة الأرض على الإنسان بما عليها المشار في قوله تعالى: {يومئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4].
ومنها: شهادة المال على صاحبه فيم أنفقه.
ومنها: شهادة الصيام والقرآن وشفاعتهما لصاحبهما. ونحو ذلك والله تعالى أعلم.
تنبيه:
في هذا العرض إشعار يتعلق بالقضاء وكمال العدالة، وهو إذا كان رب العزة سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء شهيد، وبكل شيء عليم، وموكل حفظه يكتبون أعمال العباد، ومع ذلك لم يقض بين الخلائق بما يعلمه منهم ولا بما سجلته ملائكته ويستنطق أعضاءهم، ويستشهد الرسل على الأمم والرسول صلى الله عليه وسلم على الرسل، أي بأنهم بلغوا أممهم رسالات الله إليهم، فلأن لا يقضي القاضي بعلمه من باب أولى. والعلم عند الله تعالى.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «إنكم تَحتكمون إلى وإنما أنا بشر أقضي لَكم على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شَيئاً من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نَار» الحديث. أي كان من الممكن أن ينزل عليه الوحي، ولاسيما في تلك القضية بعينها، إذ قالوا في مواريث درست معالمها ولا بينة بينهما، ولكن إذا نزل الوحي عيله صلى الله عليه وسلم فيها، فمن بالوحي لمن يأتي بعده في القضاء؟
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر».
ومعلوم أن البينة فعلية من البيان، فتشمل كل ما يبين الحق من شهادة وقرينة كما في قصة يوسف من القرائن مع إخوته ومع امرأة العزيز. إلخ.
{قتل أَصْحَابُ الأخدود (4) النَّارِ ذَاتِ الوقود (5)}
قال أبو حيان، وجواب القسم في قوله تعالى: {والسماء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] قيل: محذوف، فقيل: اتبعثن ومحوه، ويل: مذكور، فقيل: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ونحوه، وقيل: قتل، وهذا نختاره، وحذفت اللام أي لقتل وحسن حذفها كما حسن في قوله: {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] أي لقد أفلح، ويكون الجواب دليلاً على لعنة الله على من فعل ذلك، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم.
وإذا كان {قتل} هي الجواب فهي جملة خبرية، وإذا كان الجواب غيرها في جملة إنشائية، دعاء عليهم.
وقرئ: {قتل} بالتشديد، قرأها الحسن وابن مقسم.
وقرأها الجمهور بالتخفيف.اهـ.
و{الأخدود}: جمع خد، وهو الشق في الأرض طويلاً. وقوله: {النار ذَاتِ الوقود} {الوقود} بالضم وبالفتح، والقراءة بالفتح كالسحور، والوضوء. فبالفتح ما توقد كصبور والماء المتوضأ به والطعام المتسحر به، وبالضم المصدر، والفعل والوقود بالضم ما توقد به.
ذكر صاحب القاموس، و{النار ذات الوقود}: بدل من {الأخدود}.
وقيل في معناها: عدة أقوال، حتى قال أبو حيان: كسلت عن نقلها.
ونقل الفخر الرازي ثلاثة منها.
والمشهور عند ابن كثير ما رواه أحمد ومسلم: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع لي غلاماً لأعلِّمه السحر، فدفع إليه غلاماً كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر والملك راهب، فأتى الغلام الراهب فسمع من كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا أراد الساحر ضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك، فقل: حبسني الساحر: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس، فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحبّ إلى الله أم الساحر؟ قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبُّ إلى وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة، حتى يجوز الناس ورماها فقتلها، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني، إنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل على، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس أعمى فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني. فقال: ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عزَّ وجلَّ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا.
قال: لا، ربي وربك الله، قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلّه على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء، فقال: أما أنا لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل، قال: أنا.
قالا: لا، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه أيضًا بالعذاب حتى دل على الراهب فأوتي بالراهب فقيل: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرقه أيضًا، وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلاَّ فدهدهوه، فذهبوا به فلما علموا به الجبل، فال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يلتمس حتى دخل الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فبعث به نفراً إلى البحر في فرفور، فقال: إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه، فقال الغلام: اللَّهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا هم، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع النسا في صعيد وأحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك ان فعلت ذلك قتلتني ففعل، ووضع السهم في قوسه ورماه به في صدغه، فوضع الغلام يده في موضع السهم ومات، فقال الناس آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، فقد والله وقع بك: قد آمن الناس كلهم فأمر بأفواه السكك، فخدت فيها الأخاديد وأُضرِمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلاَّ فأقحموه فيها قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابنٍ لها رضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي، اصبري يا أماه فإنك لى الحق. وقد قيل: إن الغلام دفن فوجد زمن عمر بن الخطاب وبده على صدغه، كلما رفعت خرج الدم من جرحه، وإذا تُركت أعيدت على الجرح»
.
وقد سقنا هذه القصة، وهي من أمثل ما جاء في هذا المعنى لها فيها من العبر، والتي يمكن أن يستفاد منها بعض الأحكام، حيث إن ابن كثير، عزاها للأمام أحمد بن حنبل ومسلم، أي لصحة سندها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الآتي:
الأول: ان السحر بالتعلم كما جاء قصة الملكين ببابل، هاروت وماروت يعلمان الناس السحر.
الثاني: إمكان اجتماع الخير مع الشر: إذا كان الشخص جاهلاً بحال الشر، كاجتماع الإيمان مع الراهب مع تعلم السحر من الساحر.
ثالثا: إجراء خوارق العادات على أيدي دعاة الخير، لبيان الحق والتثبت في الأمر، كما قال الغلام: اليوم أعلم أمر الراهب أحبَّ إلى الله أم أمر الساحر؟
الرابع: أنه كان أميل بقلبه إلى أمر الراهب، إذ قال: اللَّهم أمر الراهب أحب إليك، فسأل عن أمر الراهب ولم يسل عن أمر الساحر؟
الخامس: اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه، كاعتراف الراهب للغلام.
السادس: ابتلاء الدعاة إلى الله ووجوب الصبر على ذلك، وتفاوت درجات اناس في ذلك.
السابع: إسناد الفعل كله لله، إنما يشفي الله.
الثامن: رفض الداعي إلى الله الأجر على عمله وهدايته {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57].
التاسع: بيان ركن أصيل في قضية التوسل، وهو ان مبناه على الإميان بالله ثم الدعاء وسؤال الله تعالى.
العاشر: غباوة الملك المشرك المغلق قلبه بظلام الشرك، حيث ظن في نفسه أنه الذي شفى جليسه. وهو لم يفعل له شيئاً، وكيف يكون وهو لا يعلم؟
الحادي عشر: اللجوء إلى العنف والبطش عند العجز عن الإقناع والإفهام، أسلوب الجهلة والجبابرة.
الثاني عشر: منتهى القسوة والغلظة في نشر الإنسان، بدون هوادة.
الثالث عشر: منتهى الصبر وعدم الرجوع عن الدين، وهكذا كان في الأمم الأولى، وبيان فضل الله على هذه الأمة، إذ جاز لها التلفظ بما يخالف عقيدتها وقلبها مطمئن بالإيمان.
وقد جاء عن الفخر الرازي قوله: الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى به أن يصبر على ما خوف منه، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك، وقال.
وروى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: تشهد أني رسول رسول الله؟ فقال: نعم، فتركه، وقال للآخر مثله، فقال: لا بل أنت كذاب. فقتله، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه، وأما الذي قتل فأخذ بالأفضل فهنيئاً له».
وتقدم بحث هذه المسألة للشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه.
الرابع عشر: إجابة دعوة الغلام ونصره الله لعباده المؤمنين: اللَّهم اكفنيهم بما شئت.
الخامس عشر: التضحية بالنفس في سبيل نشر الدعوة، حيث دل الغلام الملك على الطريقة التي يتمكن الغلام من اقناع الناس بالإيمان بالله، ولو كان الوصول لذلك على حياته هو.
السادس عشر: إبقاء جسمه حتى زمن عمر رضي الله عنه إكراماً لأولياء الله، والدعاة من أن تأكل الأرض أجسامهم.
السابع عشر: إثبات دلالة القدرة على البعث.
الثامن عشر: حياة الشهداء لوجود الدم وعودة اليد مكانها، بحركة مقصودة.
التاسع عشر: معرفة تلك القصة عند اهل مكة حيث حدثوا بها تخويفاً من عواقب أفعالهم بضعفة المؤمنين، كما هو موضح في تمام القصة.
العشرون: نطق الصبي الرضيع بالحق.
{إِذْ هُمْ عليها قعود (6)}
الضمير في قوله: {هُمْ}، والضمير في قوله، {قعود}، ذكر فيهما خلاف.
فقيل: راجعان إلى من أحرقوا وأقعدوا عليها.
وقيل: راجعان إلى الكفار.
وعليه ففي قوله: {عليها قعود}، إشكال وهو كيف يتمكن لهم القعود على النار.
فقيل: إنها رجعت عليهم فأحرقتهم، فقعودهم عليها حقيقة.
وقيل: قعود على حافتها، كما تقول: قعود على النهر أو على البئر أو على حافته وحوله، كما يقال: نزل فلان على ماء كذا، أي عنده.
وأنشد أبو حيان بيت الآعشى:
تشب لمقرورين يطليلانها ** وَبات على النار الندى والمحلق

وقد استدل صاحب القول الأول بقوله تعالى الآتي: {فَلَهُمْ عذاب جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عذاب الحريق} [البروج: 10]، فقال: الحريق في الدنيا وجهنم في الآخرة.
ولكن في الآية قرينة، على أن الضمائر راجعة إلى الكفار الذين قتلوا المؤمنين وأحرقوهم، وهي قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عذاب جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عذاب الحريق} [البروج: 10]، حيث رتب العذاب المذكور على عدم التوبة، وجاء بثم التي هي للتراخي، مما يدل على أنهم لم تحرقهم نارهم انتقاماً منهم حالاً، بل أمهلوا ليتوبوا من فعلتهم الشنيعة، وإلاَّ فلهم العذاب المذكور في الآخرة. والله تعالى أعلم.
{وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شهود (7)}
بمعنى حضور يتفق قوله تعالى: {إِذْ هُمْ عليها قعود} [البروج: 6]، أي حضور يشاهدون إحراق المؤمنين، وهذا زيادة في التكبيت بهم، إذ يرون هذا المظهر بأعينهم ولم يشفقوا بهم ولم يعتبروا بثباتهم.
{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الحميد (8)}
هذا ما يسمى أسلوب المدح بما يشبه الذم ونظيره في العربية أقوال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكَتائب

وذكر أبو حيان قول الشاعر: وهو قيس الرقيات:
ما نَقَمُواْ من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبُوا

وقول الآخر:
ولا عَيب فيها غَير شكله عينها ** كذاك عناق الطَّير شكلا عيونها

يقال عين شكلاء: إذا كان في بياضها حمرة قليلة يسيرة:
وقدمنا أن نقمتهم عليهم للمستقبل، كما في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله} [البروج: 8]، لا على الماضي إلا أن آمنوا، لأنهم كانوا يقولون لهم: إما أن ترجعوا عن دينكم، وإما أن تلقوا في النار، ولم يحرقوهم على إيمانهم السابق، بل على إصرارهم على الإيمان للمستقبل.
والإتيان هنا بصفتي الله تعالى {العزيز الحميد} إشعار بأنه سبحانه قادر على نصرة المؤمنين والانتقام من الكافرين، إذ {العزيز} هو الغالب، كما يقولون: من عزّ بز، ولكن جاء وصفه بـ: {الحميد}، ليشعر بأمرين.
الأول: أن المؤمنين آمنوا رغبة ورهبة، رغبة في {الحميد} على ما يأتي {الغفور الودود}، ورهبة من {العزيز} كما سيأتي في قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد} [البروج: 12]، وهذا كمال الإيمان رغبة ورهبة وأحسن حالات المؤمن.
والأمر الثاني: حتى لا ييأس أولئك الكفار من فضله ورحمته، كما قال: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} [البروج: 10]، إذ اعطاهم المهلة من آثار صفته {الحميد} سبحانه.
قوله تعالى: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
تأكيد وبيان {العزيز الحميد}، إذ لا يخرج عن سلطانه أحد، فهو القاهر فوق عباده، وهو المدبر أمر ملكه، سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {والله على كُلِّ شَيْءٍ شهيد}.
ربط بأول السورة و{شاهد ومشهود}، فهو سبحانه على كل شيء شهيد، ومن ذلك فعل أولئك، وفيه شدة تخويف أولئك وتحذيرهم على شاكلتهم، بأن الله تعالى شهيد على أفعالهم فلن تخفى عليه خافية.
وقد جاء بصيغة المبالغة في شهيد، لما يتناسب مع هذا المقام كما فيه المقابلة بالفعل، كما كانوا قعوداً على النار وشهوداً على إحراق أولياء الله تعالى، فإنه سبحانه سيعاملهم بالمثل، إذ يحرقهم هو عليهم شهيد.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ}.
يحتمل أن يكون مراداً به {أصحاب الأخدود}، و{فتنوا} بمعنى أحرقوا، ويحتمل أن يكون عاماً في كل من أذى المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ويردوهم عنه بأي أنواع الفتنة والتعذيب.
وقد رجع الأخير أبو حيان وحمله على العموم أولى، ليشمل كفار قريش بالوعيد والتهديد، وتوجيههم إلى التوبة مما أوقعوه بضعة المؤمنين، كعمار وبلال وصهيب وغيرهم.
ويرجح هذا العموم، العموم الآخر الذي يقابله في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير} [البروج: 11]، فهذا عام بلا خلاف في كل من اتصف بهذه الصفات.
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد (12)}
في مقام المنطوق بالمفهوم من {العزيز الحميد}، كما تقدم.
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويعيد (13)}
قيل: يبدئ الخلق ويعيده، كالزرع والنبات والإنسان بالمولد والموت، ثم بالبعث.
قيل: يبدأ الكفار بالعذاب ويعيده عليهم، واستدل لهذا بقوله: {كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56].
وفي الحديث: «ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلاَّ إذا كان يوم القيامة، طح لها بقاع قرقر، ثم يأتي بها أوفر ما تكون سمناً فتطؤه بخفافها فتستن عليه كما مر عليه أخراها أعيد عليه أولها، حتى يقضي بين الخلائق فيرى مصيره إما إلى جنة، وإما إلى نار» إلى آخر الحديث في صاحب البقر والغنم والذهب.
ولكن الذي يظهر والله تعالى أعلم هو الأول، لأنه يكثر في القرآن كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34]. وقوله: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34].
وجعله آية على قدرته ودليلاً على عجز ونقص الشركاء، في قوله في أول هذه الآية: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34]، ورد عليهم بقوله: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34]، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خلق نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فاعلينَ} [الأنبياء: 104].
{هَلْ أَتَاكَ حديث الجنود (17)}
بعد عرض قصة أصحاب الأخدود تسلية للمؤمنين وتثبيتاً لهم، وزجراً للمشركين وردعاً لهم، جاء بأخبار لبعض من سبق من الأمم و{فرعون وثمود} بدل من {الجنود}، وهم جمع جند، وهم الكثرة، وأصحاب القوة، وحديثه ما قص الله من خبره مع موسى وبني إسرائيل.
وفي اختيار {فرعون} هنا بعد {أصحاب الأخدود} لما بينهما من المشاكلة والمشابهة، إذ فرعون طغى وادَّعى الربوبية، كملك أصحاب الأخدود الذي قال لجليسه: ألك رب غيري؟ ولتعذيبه بني إسرائيل بتقتيل الأولاد واستحياء الناس، وفي ذلكم بلاء منر بكم عظيم، ولتقديم الآيات والبراهين على صدق الداعية، إذ موسى عليه السلام قدَّم لفرعون من آيات ربه الكبرى فكذَّب وعصى، والغلام قدم لهذا الملك الآيات الكبرى: إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وعجز فرعون عن موسى وإدراكه، وعجز الملك عن قتل الغلام إذ نجاه الله من الإغراق والدهدهة من قمة الجبل، فكان لهذا أن يرعوى عن ذلك ويتفطن للحقيقة، لكن ساطانه أعماه كما أعمى فرعون.
وكذلك آمن السحرة لما رأوا آية موسى وخروا لله سجدًّا.
وهكذا آمن الناس برب الغلام، فوقع الملك فيما وقع فيه فرعون. إذ جمع فرعون السحرة ليشهد الناس عجز موسى وقدرته، فانقلب الموقف عليه، وكان أول الناس إيمانا هم أعوان فرعون على موسى، وهكذا هنا كان أسرع الناس إيماناً الذي جمعهم الملك ليشهدوا قتله للغلام.
فظهر تناسب ذكر فرعون دون غيره من الأمم الطاغية السابقة، إن كان في الكل عظة وعبرة، ولكن هذا منتهى الإعجاز في قصص القرآن وأسلوبه، والله تعالى أعلم.
وكذلك ثمود لما كان منهم من مظاهر القوة والطغيان، وقد جمعهما الله أيضًا معاً في سورة الفجر في قوله: {وثمود الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 9- 10]، وهكذا جمعهما هنا {فرعون وثمود}.
{بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في تكذيب (19)} أي مستمر في كل الأمم، وتقدم في سورة الانشقاق قبلها {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22].
فقال الكرماني، محمود بن حمزة بن نصر تاج القراء في كتابه أسرار التكرار في القرآن: إن المغايرة لمراعاة رؤوس الآي والفواصل، ولكن الظاهر من السياق في الموضعين مراعاة السياق لا فواصل الآي، لأن في سورة الانشقاق الحديث مع المشركين {لتركبن طبقا عَن طبق فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قرئ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 19- 22].
وفي سورة البروج هنا ذكر الأمم من فرعون وثمود وأصحاب الأخدود والمشركين في مكة، ثم قال: {بَلِ الذين كَفَرُواْ في تكذيب} [البروج: 19]، فناسب هذا هنا، وناسب ذاك هناك. والله تعالى أعلم. اهـ.